إذا تأملنا معنى الإيمان وحقيقته عند
أهل السنة والجماعة، فسنجد أن له إطلاقين في غالب النصوص:
الإطلاق الأول: الإيمان بمعنى الدين، وكلمة الدين تشمل مراتب الإيمان كلها: الإسلام والإيمان والإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام -وقد سبق شرحه- الذي رواه الإمام
مسلم في أول
صحيحه عن
عمر، ورواه
البخاري أيضاً عن
أبي هريرة في كتاب الإيمان مع اختلاف في بعض ألفاظه قال في آخره: {
يا عمر ! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}، فكلمة دينكم تشمل المراتب الثلاث التي سأل عنها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم {
أخبرني عن الإسلام}، {
أخبرني عن الإيمان}، {
أخبرني عن الإحسان} فهذه المسائل الثلاث هي الدين الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: ((
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ))[آل عمران:19]، والإيمان بهذا المعنى هو الذي جاء في قوله تعالى: ((
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ))[المائدة:5] أي: من يكفر بدين الإسلام فقد حبط عمله، فدين محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه هو ما جاء في الكتاب والسنة جميعاً، ويدخل في ذلك شعب الإيمان الظاهرة منها والباطنة، وبما سبق يتبين لنا أن الإيمان يأتي بمعنى الدين.
والإطلاق الآخر للإيمان أنه مرتبة من مراتب الدين كما في حديث جبريل، والدليل على ذلك أنه غاير بين الإسلام والإيمان،
والقاعدة تقول: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا)، فالإيمان كما في حديث جبريل عليه السلام مرتبة أعلى من الإسلام، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بقوله: {أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت}، وهي أعمال متعلقة بالجوارح، وفسر الإيمان بقوله: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره} وهي أعمال اعتقادية متعلقة بالقلب.
وهذا يدل على أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا؛ فيكون الإيمان بمعنى الأعمال الباطنة، والإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة. فالأعمال الظاهرة هي التي تضمنها قول الطحاوي: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين]؛ لأنه يرى الإيمان والإسلام مترادفين، ولنا اعتراض على هذا الرأي، وذلك واضح من حديث أنس وحديث ابن عمر، أما حديث أنس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم؛ له ما لنا وعليه ما علينا} فالأعمال الواردة في الحديث أعمال ظاهرة، وأما حديث ابن عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}، والأعمال الواردة في الحديث أعمال ظاهرة أيضاً، فيثبت للمرء حكم الإسلام إذا أتى بهذه الأعمال الظاهرة.
ونستفيد من حديث جبريل السابق أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، والإحسان أعلى درجة من الإيمان والإسلام، وقد جاء ذلك صريحاً في كتاب الله، قال الله تعالى: ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا))[الحجرات:14] فالأعراب كانوا حديثي عهدٍ بإسلام، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: آمنا، وكأنهم يريدون أن يقولوا: نحن مثل السابقين الأولين، فلم يقرهم الله سبحانه وتعلى على دعوى الإيمان ولم ينف عنهم الإسلام، بل لم ينف عنهم قرب دخول الإيمان : ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] فإذا قلت: لم يدخل محمد البيت، فغاية ما يدل عليه هذا الشيء أنه لم يقع الفعل، فإذا قلت: لما يدخل محمد البيت، دل ذلك على قرب الدخول، فهو متوقع ولكنه إلى الآن لم يقع.
فالشاهد أن الإسلام يطلق على وجهين: اسم مدح يطلق على المؤمن والمسلم في مقابلة الكافر، وأما بالنسبة لأهل القبلة فليس بمدح، أما الإيمان فهو اسم مدح؛ لأن معنى ذلك أن صاحبه مبتعد عن ارتكاب الكبائر.